منذ تكليف نجيب ميقاتي تشكيل الحكومة، خلفًا لمصطفى أديب وسعد الحريري، يعيش المعنيّون بتأليف الحكومة "شهر عسل"، يكاد يخفي خلف طيّاته "انفصامًا" عن الواقع الذي يواجهه اللبنانيّون، والحافل كما هو واضح بالكوارث والمآسي، وسط أزمات تتفاقم ولا تنتهي، لعلّ "العتمة الشاملة" على وقع "محنة" المازوت، تكون آخر تجلّياتها.
برز هذا "الانفصام" بوضوح في استشارات التكليف والتأليف هذا الأسبوع، حيث دخلت عبارة "لا أريد شيئًا لنفسي" موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية لكثرة ما تردّدت، وأوحت أنّ جميع النواب والكتل "متعفّفون"، ولا يريدون من الحكومة سوى أن تنكبّ على "الإنقاذ والإصلاح"، بعيدًا عن أيّ مكاسب شخصيّة أو طائفيّة أو انتخابيّة.
ومع أنّ هذا السيناريو "مجرَّب" مرارًا وتكرارًا، وهو اختُبِر مرّتين على الأقلّ في عامٍ واحد، إلا أنّه "انطلى" مرّة أخرى على كثيرين، قد يكون رئيس الحكومة المكلَّف نجيب ميقاتي نفسه من بينهم، هو الذي لم يتردّد في التعبير عن "اطمئنانه" لسير مهمّته مبكرًا، فيما ذهب بعض "المتحمّسين" له لحدّ ضرب مواعيد لإنجازه المهمّة، على رأسها الرابع من آب.
لكنّ المعطيات بدأت تتغيّر شيئًا فشيئًا في الساعات القليلة الماضية، مع سلسلة مؤشّرات يبدو أنّها خفّفت من "اندفاعة" ميقاتي، من دون أن تحدّها أو تجمّدها. وقد تجلّى ذلك بكسر الرجل وتيرة "الزيارات اليومية" إلى قصر بعبدا، لأخذ "فرصة" للتأمّل والتفكير حتى الإثنين، مع استبعاد تشكيل الحكومة قبل تاريخ الرابع من آب، الذي اعتبره البعض "مفصليًا".
لعلّ "رمزية" هذا التاريخ وحدها تحمل الكثير من المعاني، إذ إنّ كثيرين أرادوا أن تبصر الحكومة النور قبل هذا اليوم لمواجهة "الغضب الشعبيّ" الذي قد تفجّره التحرّكات المرتقبة فيه، التي ستنطلق من عنوان المطالبة بالحقيقة في "جريمة" انفجار المرفأ، في ذكرى مرور عام على "وعد" الأيام الخمسة، التي تتزامن مع "فضيحة" عرقلة مسار العدالة "بالجرم المشهود".
لكن، ولأنّ ما كلّ ما يتمنّاه المرء يدركه، يبدو أنّ هذا التاريخ سيمرّ من دون حكومة ولا من يحزنون، بعدما انتهت "سكرة التكليف"، وما حملته من وعود وتعهّدات، ليظهر أنّ الواقع ليس "ورديًا" البتّة، وأنّ الحواجز التي حالت دون ولادة الحكومة طيلة الأشهر الماضية، لا تزال تراوح مكانها، من دون أن يطرأ عليها ما يوحي بأنّ أحدًا "أخذ العِبَر والدروس".
وقد تكون عودة السجال حول "المداورة الطائفية" للحقائب السياديّة خير دليلٍ على ذلك، بعدما ظهر أنّ الاتفاقات المسبقة التي قيل إنّها تمّت حصل تجاوزها، فعادت وزارة الداخلية لتشكّل "أمّ العقد"، على أعتاب استحقاق انتخابيّ يسعى البعض للإشراف عليه من خلال الإمساك بالحقيبة "الدسمة"، رغم أنّ نزاهة الانتخابات تتطلّب مبدئيًا كفّ يد "الداخلية" عن إدارتها.
وبالتوازي، عادت التسريبات حول الأبعاد والاعتبارات الطائفية "على المكشوف"، في ظلّ حديثٍ عن إصرار رئيس الجمهورية على تسمية الوزراء المسيحيّين، بعدما سحبت الكتل المسيحية يدها من التشكيلة الحكوميّة، وعن تمسّك رئيس الحكومة المكلَّف في المقابل بحقائب بعينها للسنّة، واعتبار الثنائي الشيعي حقيبة المالية مثلاً "خطًا أحمر" يجوز "تقديسه".
كلّ ذلك أوحى بأنّ الأمور، بخلاف ما صُوّرت في الأيام الماضية، لا تزال "عالقة" في الدوامة نفسها، وأنّ كلّ "التعفّف" الذي أظهره البعض، لغاية في نفس يعقوب في الأيام الماضية، ليس سوى "وهم" لا يُعرَف إن كان لا يزال ينطلي على أحد، ولا سيما على "جمهور" الأحزاب، التي بدأت تتعامل مع كلّ الأمور، من بوابة "الاستقطاب الانتخابي" ليس إلا.
أكثر من ذلك، ثمّة من يُرجِع "السلبيّة" الناشئة في الساعات الماضية، إلى الإطلالة التلفزيونية الأخيرة لرئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، رغم أنّه تمسّك بدوره بظاهرة "التعفّف"، فأشاد تارة برئيس الحكومة المكلّف بوصفه "شخصية ناجحة"، وأكّد تارةً أخرى أنّه لن يتدخّل في عملية التأليف، وسيقرّر ما إذا كان سيمنح الحكومة الثقة بناءً على التشكيلة.
لكنّ باسيل، في مقابل هذه الإيجابية الظاهرة، لم يتردّد في "تمرير" بعض الرسائل "المضمرة"، حيث جدّد التلويح بالاستقالة من المجلس النيابي، منتقيًا عبارات قد تبدو "تصعيدية" في جانب كبير، عبر التهديد بـ"حرق من يريد حرقنا"، كما أنّه لم يتوانَ عن "استذكار" المرحلة السابقة، بتحذير ميقاتي من أن يكون "الضحية الخامسة" لسلفه سعد الحريري.
يقول البعض إنّ "تصعيد الخطاب" هذا لم يكن في وقته المناسب، وإن كان "العونيّون" يؤكّدون أنّه يأتي في سياق "ردّ الفعل" على الاتهامات التي تُساق ضدّ "التيار" من غير وجه حقّ، علمًا أنّ الاستشارات أثبتت أنّهم ليسوا "أكثرية"، بدليل تكليف مرشّحٍ يعتبرونه "امتدادًا" لمن عانوا الأمرَّين لـ"تطييره"، وإن كانوا يتعاملون مع "روحيّته الإيجابيّة" بكل انفتاح.
لكن، رغم كلّ هذه الأجواء "الملبَّدة"، إن جاز التعبير، لا يزال رئيس الحكومة المكلَّف نجيب ميقاتي يصرّ على أنّ "الفرصة" متوافرة أمامه لإنجاز المهمّة، مستندًا ربما إلى "الضمانات" التي تحدّث عنها لحظة تكليفه، وهو يصرّ حتى الساعة على "تغليب" التفاؤل والإيجابية، مفضّلاً عدم الدخول في العلن في تفاصيل الخلافات والعقد، حيث "تكمن الشياطين".
وعلى خطاه، تسير رئاسة الجمهورية التي تكتفي حتى الآن، في بياناتها المقتضبة حول لقاءات رئيس الجمهورية ميشال عون مع ميقاتي، على التركيز على "أجواء إيجابية وبنّاءة" تسود النقاشات، في مؤشّر يدلّ على أنّ الأمور لا تزال مفتوحة على "الأخذ والعطاء"، ولم تصل إلى حدّ "القطيعة" التي كانت تترجم بيانات نارية في مرحلة تكليف الحريري.
وبين هذا وذاك، ثمّة من يؤكد أنّ الترويج لهذه "الإيجابية" قد يكون مفيدًا، لما يتركه من انطباعات "مشجّعة" لدى الرأي العام، لكنّه لا يكفي على الإطلاق، إذا ما كان يعني الهروب إلى الأمام بكلّ بساطة، مع ما ينطوي على ذلك من تكريس آخر لسياسة "الانفصام عن الواقع"، وكلّها عوامل تقرّب اللبنانيين أكثر وأكثر من "جهنّم"، وهو ينتظرون "الدخان الأبيض" الموعود!.